ايام في امارة الافغان العرب في جبال افغانستان.. وقصة اللقاء مع اخطر رجل في العالم
القدس العربي ـ من عبد الباري عطوان:
في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1996، اتيحت لي الفرصة لاجراء لقاء مع الشيخ اسامة بن لادن في افغانستان. ترددت في البداية في قبول العرض لأن افغانستان في ذلك الوقت كانت تشهد حرباً اهلية طاحنة. ولكني عدت وقبلت وجري ابلاغي ان الرحلة ستكون عن طريق نيودلهي، ومنها الي جلال اباد. وبعد ان اجريت الترتيبات اللازمة جاء من يبلغني بأن الموقف خطير، وطالبان تزحف نحو جلال اباد واحوال الاخوان في افغانستان ليست علي ما يرام ولا بد من التأجيل.
لم اغضب كثيراً او احزن، فالشيخ اسامة بن لادن لم يكن علي شهرته الحالية، رغم انه كان متهما بترتيب هجوم علي قاعدة امريكية في الخبر بالمملكة العربية السعودية عن طريق شاحنة ملغومة، اسفر عن مقتل 19 جنديا امريكيا.
بعد اسبوعين جاء شخص من طرف بن لادن ليبلغني ان خط الرحلة سيكون عبر بيشاور هذه المرة.
ما شجعني علي قبول العرض ان الصحافي البريطاني الجريء روبرت فيسك سبقني الي لقاء الشيخ اسامة بن لادن، الأمر الذي اصابني بالارتياح والطمأنينة، وشكل لي حصانة امام بعض الجهات العربية وغير العربية.
اليوم نعيد نشر الحديث، مثلما نعيد نشر تجربة السفر الي افغانستان، ولكن مع ادخال اضافات عديدة، لم تنشر في المرة الأولي، بعضها طريف، وبعضها الآخر ينطوي علي معلومات جديدة. والهدف من اعادة النشر هو اطلاع القارئ علي حقيقة هذه الظاهرة، ظاهرة الافغان العرب، وكيف يفكر ابرز اقطابها الشيخ بن لادن. وما هي حقيقة مواقفه تجاه البلاد العربية، والولايات المتحدة الامريكية. فعندما نشرنا هذا الحديث في المرة الاولي لم تكن القدس العربي علي هذه الدرجة من الانتشار، كما ان الشيخ بن لادن لم يكن ايضاً علي هذه الدرجة من الشهرة، بحيث تحشد الولايات المتحدة سبع حاملات طائرات وآلاف الطائرات والقاذفات وتكون تحالفاً من دول صغري وعظمي لمواجهته.
كانت البداية في لندن، شخص ملتح يهمس في اذني بان الظرف بات مهيئا للسفر الي افغانستان ولقاء الشيخ اسامة بن لادن زعيم العرب الافغان، واكثر شخص يخشاه الامريكيون.
الامر يحتاج الي تفكير عميق، فافغانستان ليست آمنة، وحركة الطالبان نشطة، والبلاد في حالة من الفوضي المطلقة، ثم انني لست في بداية حياتي الصحافية، ابحث عن مجد مهني، او ترقية من رئيس التحرير، وزيادة في المرتب بالتالي.
ولانني اري الحياة، وليست الصحافة فقط، مغامرة كبيرة، ولايماني بان الصحافي العربي ليس اقل من نظيره الاجنبي في الذهاب الي خطوط القتال الاولي، وتغطية الاحداث من مواقع الخطر، وفوق هذا وذاك لانني لا اؤمن بنظرية مليون جبان ولا الله يرحمو التي يؤمن بها الكثيرون في هذه المهنة، كان قراري بالموافقة دون تردد.
خطة الرحلة كانت في الذهاب الي بيشاور، وهناك سيأتي من يأخذني الي افغانستان للقاء الرجل وانصاره، وصلت بيشاور عن طريق دبي وكراتشي في ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، واتخذت كل اجراءات السرية المطلقة، وكانت مفاجأتي عظيمة عندما انقض علي احدهم محتضنا مقبلا امام مكتب الاستقبال في الفندق الذي قصدت الاقامة فيه. لقد كان صديقا قديما، جاء في اطار وفد سعودي لتقصي الحقائق في افغانستان، وعاد لتوه الي بيشاور في طريقه الي المملكة. وعندما سألني عن سبب وجودي في هذا المكان الغريب، قلت انه السبب نفسه الذي اتي من اجله والوفد، اي تقصي الحقائق، ولكنه تمني علي لو ارسلت زميلا آخر البلاد خطرة والامن فالت .
بعد ساعتين من الاقامة في غرفتي في الفندق، اتصل بي شخص قال ان اسمه فيصل وهو الذي سيرتب لي الرحلة الي افغانستان، وعلي ان اكون جاهزا في العاشرة صباحا، وسيشرح لي كل شيء وجها لوجه، فالهاتف غير آمن.
عبور الحدود حتي جلال اباد
في العاشرة صباحا، كان فيصل يطرق باب غرفتي في الفندق، شاب متوسط القامة، يرتدي ملابس باكستانية، اسمر البشرة، متحفظ في الحديث، غير حليق الذقن، وفهمت من خلال الكلمات القليلة التي نطق بها انه من جدة، او لعله من مكة المكرمة، وربما اكون مخطئا.
فيصل احضر لي زيا افغانيا، عبارة عن بنطال فضفاض (سروال) وقميص طويل (ثلاثة ارباع جلباب)، وعمامة، وطلب مني ان ارتديها جميعا، واترك كل شيء في الفندق، وقال ان اثنين من الطالبان سيرافقانني لتهريبي عبر الحدود حتي جلال اباد، وهناك تنتهي مهمتهما، وتبدأ مهمة اخرين، وطمأنني بعد ان لاحظ مظهري الجديد، ان قوات الامن الباكستانية التي تمنع العرب من الذهاب الي افغانستان وتعتقلهم، لن تتعرف علي، فشكلي يوحي كما لو كنت احد زعماء قبائل البشتون.
انطلقت من الفندق بالزي الجديد، وفي صحبة الطالبانيين الي محطة الحافلات في بيشاور، وهناك تركنا فيصل، بعد ان اطمأن الي دقة الترتيبات، انحشرنا في حافلة تويوتا صغيرة (بيك آب) مع 15 مسافرا اخرين، وكان منظري غريبا بالنسبة الي علي الاقل، وان كان متجانسا مع الاخرين، والاستثناء الوحيد ان ملابسي كانت جديدة، وعمتي كذلك، واذا كنت قد لفت نظر جميع ركاب الحافلة، ومعاون سائقها الذي نظر الي بتشكك، فلذلك السبب وحده.
السائق كان شابا، ويسابق الريح في سيارته القديمة المتهالكة، ويتلوي بين المطبات بطريقة بهلوانية في طريق جبلي مرعب، باكستان في حالة طواريء، والاجراءات الامنية في ذروتها، ولكن رغم الحواجز الكثيرة التي اوقفتنا الا اننا مررنا بسلام حتي نقطة الحدود.
مرافقاي من حركة الطالبان (اي طلبة العلم) شابان في العشرين من عمرهما او اقل قليلا، متواضعان، لا يعرفان العربية، ولا اي لغة اخري، وانا بالطبع لا اعرف الافغانية، وكانت اللغة المشتركة بيننا هي الصمت، مع ابتسامات الارتياح في كل مرة نجتاز فيها حاجزا للجيش الباكستاني. وقد لاحظت انهما لم يكتما ضحكتهما كلما نظرا الي هيئتي الجديدة، وعمتي، وربما اعتقدا انني احد مهربي الهيروين، او تاجر سلاح، او انسان علي باب الله يريد الجهاد في بلد يبدو ان الجهاد فيه لن يتوقف ابدا.
نقطة الحدود كانت عبارة عن ممر وسط جبلين بعرض عشرة امتار علي الاكثر، يقف عليها جنود ورجال مباحث من باكستان، يتأملون المارين بتفحص، ولكنهم لا يوقفون الا من معه كيس او اشياء لافتة للنظر. ولانني لا احمل الا مخلاة من القماش الرديء، لا تضم الا كاميرا وجهاز تسجيل صغيرا، وبضع اوراق، وبطاريات صغيرة، فقد مررنا بهدوء دون ان يوقفنا احد، او لعل الطالبيين، اللذين يرتبطان بعلاقة جيدة مع باكستان، وجيشها علي وجه التحديد قد كانا اقوي من جواز سفر دبلوماسي بالنسبة الي.
بعد نقطة الحدود الباكستانية مشينا سيرا علي الاقدام لحوالي نصف كيلومتر، بعدها لاحت نقطة الحدود الافغانية، عبارة عن علم ابيض متسخ، او لعله قطعة من ثوب بال، علق علي عصا عادية بالكاد تُري، يجلس الي جانبها شبح رجل ملتح معمم، لم يسأل احدا وكأن الامر لا يعنيه.
وصلنا الي سوق صغيرة، اشار مرافقاي الي فمهما باشارة عرفت منها انهما يريدان تناول الغداء، فالساعة الثانية والنصف ظهرا، فاوميت بالموافقة، اتجهنا الي مطعم، علي قارعة الطريق، المقاعد خشبية اتت من الجبال مباشرة دون تهذيب، الطاولات من الزنك او الحديد الصديء. الطعام كان عبارة عن مرق فيه قطعة من لحم يعلم الله هويته، ونصف حبة بطاطس، في صحن معدني، وبضعة ارغفة من الخبز، واناء فيه ماء وثلاثة اكواب معدنية.
كانت وجبة شهية بكل المقاييس، حيث انساني الجوع كل توصيات الطبيب حول تجنب الكوليسترول، فالدهون كانت عائمة بطريقة لافتة للنظر، وعلي اي حال فنحن لسنا في مطعم خمسة نجوم مثل تلك التي تعودنا عليها، نحن معشر الصحافيين، في العواصم الغربية المترفة.
تجشأ صاحباي، وحمدا الله كثيرا علي هذه النعمة، وذهبنا بعد ذلك الي مسجد مجاور، للصلاة، وكان من الصعب علي فهم اللغة التي يتحدث بها الإمام، وان كنت تعرفت علي بعض الآيات القرآنية التي تلاها.
توجهنا الي محطة الحافلات الافغانية، ونجح مرافقاي، باعتبارهما في بلدهما، وينتميان الي الحزب الحاكم، في اجلاسي في المقعد الامامي الي جانب السائق وراكب آخر، اي في الدرجة الاولي، بينما جلسا في الدرجة السياحية تأدبا وتواضعا او هكذا اعتقدت.
الرحلة من الحدود الباكستانية الي جلال اباد تستغرق اربع ساعات او اكثر او اقل، الامر يعتمد علي همة السائق، ونوع سيارته وتعاون الركاب، سيارتنا كانت من النوع القديم الذي عاصر الجهاد الافغاني الاول، وربما شارك فيه بطريقة او بأخري.
ولذلك نزلنا منها ثلاث مرات، في الاولي والثانية لانفجار عجلات، والثالثة لاخراجها من وحل غرقت فيه، واستعصي علي محركها الخروج منه بقوته الذاتية، ولذلك كان لا بد من اللجوء الي مناكب الركاب وعضلاتهم ـ لاعطائه قوة اضافية.
السير في باكستان هو علي اليسار، تماما مثل بريطانيا، فالباكستان ربما هي الوحيدة الي جانب مالطا وقبرص علي ما اعتقد، اللتين ما زالتا متمسكتين بهذا الاثر الاستعماري البريطاني، رغم استقلالهما. اما في افغانستان فهوية المرور مجهولة، وتعتمد علي مزاج السائق والمطبات في الطريق، فالسيارة تتلوي مثل ثعبان هرم، فتارة هي علي اليسار، واخري علي اليمين، والطريق مليء بالمطبات الناجمة عن القذائف، او جنازير الدبابات، او السيول وعوامل التعرية الاخري، او كلها مجتمعة.